الجمعة، 12 يونيو 2015

هل صورة الدراسة العلمية في المادة الحية مماثلة لصورتها في المادة الجامدة

هل صورة الدراسة العلمية في المادة الحية مماثلة لصورتها في المادة الجامدة

- طرح المشكلة : تختلف المادة
الحية عن الجامدة من حيث طبيعتها المعقدة ، الأمر الذي جعل البعض يؤمن أن تطبيق خطوات
المنهج التجريبي عليها بنفس الكيفية المطبقة في المادة الجامدة متعذرا ، و يعتقد آخرون
أن المادة الحية كالجامدة من حيث مكوناتها مما يسمح بإمكانية إخضاعها للدراسة التجريبية
، فهل يمكن فعلا تطبيق المنهج التجريبي على المادة الحية على غرار المادة الجامدة ؟

– محاولة حل المشكلة :
1- أ- الاطروحة :يرى البعض ، أنه لا يمكن تطبيق المنهج التجريبي
على الظواهر الحية بنفس الكيفية التي يتم فيها تطبيقه على المادة الجامدة ، إذ تعترض
ذلك جملة من الصعوبات و العوائق ، بعضها يتعلق بطبيعة الموضوع المدروس ذاته و هو المادة
الحية ، و بعضها الأخر إلى يتعلق بتطبيق خطوات المنهج التجريبي عليها .

1-ب- الحجة : و يؤكد ذلك ، أن المادة الحية – مقارنة بالمادة
الجامدة – شديدة التعقيد
نظرا للخصائص التي تميزها ؛ فالكائنات الحية تتكاثر عن طريق التناسل للمحافظة على النوع
و الاستمرار في البقاء . ثم إن المحافظة على توازن الجسم الحي يكون عن طريق التغذية
التي تتكون من جميع العناصر الضرورية التي يحتاجها الجسم . كما يمر الكائن الحي بسلسلة
من المراحل التي هي مراحل النمو ، فتكون كل مرحلة هي نتيجة للمرحلة السابقة و سبب للمرحلة
اللاحقة . هذا ، و تعتبر المادة الحية مادة جامدة أضيفت لها صفة الحياة من خلال الوظيفة
التي تؤديها ، فالكائن الحي يقوم بجملة من الوظائف تقوم بها جملة من الأعضاء ، مع تخصص
كل عضو بالوظيفة التي تؤديها و إذا اختل العضو تعطلت الوظيفة و لا يمكن لعضو آخر أن
يقوم بها . و تتميز الكائنات الحية – أيضا –
بـالوحدة العضوية التي تعني أن الجزء تابع للكل و لا يمكن أن يقوم بوظيفته إلا في إطار
هذا الكل ، و سبب ذلك يعود إلى أن جميع الكائنات الحية – باستثناء الفيروسات – تتكون من
خلايا .

بالإضافة إلى الصعوبات المتعلقة بطبيعة الموضوع ، هناك صعوبات
تتعلق بالمنهج المطبق و هو المنهج التجريبي بخطواته المعروفة ، و أول عائق يصادفنا
على مستوى المنهج هو عائق الملاحظة ؛ فمن شروط الملاحظة العلمية الدقة و الشمولية و
متابعة الظاهرة في جميع شروطها و ظروفها و مراحلها ، لكن ذلك يبدو صعبا ومتعذرا في
المادة الحية ، فلأنها حية فإنه لا يمكن ملاحظة العضوية ككل نظرا لتشابك و تعقيد و
تداخل و تكامل و ترابط الأجزاء العضوية الحية فيما بينها ، مما يحول دون ملاحظتها ملاحظة
علمية ، خاصة عند حركتها أو أثناء قيامها بوظيفتها . كما لا يمكن ملاحظة العضو معزولا
، فالملاحظة تكون ناقصة غير شاملة مما يفقدها صفة العلمية ، ثم إن عزل العضو قد يؤدي
إلى موته ، يقول أحد الفيزيولوجيين الفرنسيين : « إن سائر أجزاء الجسم الحي مرتبطة
فيما بينها ، فهي لا تتحرك إلا بمقدار ما تتحرك كلها معا ، و الرغبة في فصل جزء منها
معناه نقلها من نظام الأحياء إلى نظام الأموات ».

و دائما على مستوى المنهج ، هناك عائق التجريب الذي يطرح
مشاكل كبيرة ؛ فمن المشكلات التي تعترض العالم البيولوجي مشكلة الفرق بين الوسطين الطبيعي
و الاصطناعي ؛ فالكائن الحي في المخبر ليس كما هو في حالته الطبيعية ، إذ أن تغير المحيط
من وسط طبيعي إلى شروط اصطناعية يشوه الكائن الحي و يخلق اضطرابا في العضوية و يفقد
التوازن .

و معلوم أن التجريب في المادة الجامدة يقتضي تكرار الظاهرة
في المختبر للتأكد من صحة الملاحظات والفرضيات ، و إذا كان الباحث في ميدان المادة
الجامدة يستطيع اصطناع و تكرار الظاهرة وقت ما شاء ، ففي المادة الحية يتعذر تكرار
التجربة لأن تكرارها لا يؤدي دائما إلى نفس النتيجة ، مثال ذلك أن حقن فأر بـ1سم3 من
المصل لا يؤثر فيه في المرة الأولى ، و في الثانية قد يصاب بصدمة عضوية ، و الثالثة
تؤدي إلى موته ، مما يعني أن نفس الأسباب لا تؤدي إلى نفس النتائج في البيولوجيا ،
و هو ما يلزم عنه عدم إمكانية تطبيق مبدأ الحتمية بصورة صارمة في البيولوجيا ، علما
أن التجريب و تكراره يستند إلى هذا المبدأ .

و بشكل عام ، فإن التجريب يؤثر على بنية الجهاز العضوي ،
ويدمر أهم عنصر فيه وهو الحياة .

و من العوائق كذلك ، عائق التصنيف و التعميم ؛ فإذا كانت
الظواهر الجامدة سهلة التصنيف بحيث يمكن التمييز فيها بين ما هو فلكي أو فيزيائي أو
جيولوجي وبين أصناف الظواهر داخل كل صنف ، فإن التصنيف في المادة الحية يشكل عقبة نظرا
لخصوصيات كل كائن حي التي ينفرد بها عن غيره ، ومن ثـمّ فإن كل تصنيف يقضي على الفردية
ويشوّه طبيعة الموضوع مما يؤثر سلبا على نتائج البحث .

وهذا بدوره يحول دون تعميم النتائج على جميع أفراد الجنس
الواحد ، بحيث أن الكائن الحي لا يكون هو هو مع الأنواع الأخرى من الكائنات ، ويعود
ذلك إلى الفردية التي يتمتع بها الكائن الحي .

1-جـ- النقد : لكن هذه مجرد عوائق تاريخية لازمت البيولوجيا
عند بداياتها و محاولتها الظهور كعلم يضاهي العلوم المادية الأخرى بعد انفصالها عن
الفلسفة ، كما أن هذه العوائق كانت نتيجة لعدم اكتمال بعض العلوم الاخرى التي لها علاقة
بالبيولوجيا خاصة علم الكيمياء .. و سرعان ما تــمّ تجاوزها .

2-أ- نقيض الأطروحة : وخلافا لما سبق ، يعتقد البعض أنه يمكن
إخضاع المادة الحية إلى المنهج التجريبي ، فالمادة الحية كالجامدة من حيث المكونات
، وعليه يمكن تفسيرها بالقوانين الفيزيائية- الكميائية أي يمكن دراستها بنفس الكيفية
التي ندرس بها المادة الجامدة . ويعود الفضل في إدخال المنهج التجريبي في البيولوجيا
إلى العالم الفيزيولوجي ( كلود بيرنار ) متجاوزا بذلك العوائق المنهجية التي صادفت
المادة الحية في تطبيقها للمنهج العلمي .

2-ب- الأدلة : و ما يثبت ذلك ، أنه مادامت المادة الحية تتكون
من نفس عناصر المادة الجامدة كالأوكسجين و الهيدروجين و الكربون و الآزوت و الكالسيوم
و الفسفور ... فإنه يمكن دراسة المادة الحية تماما مثل المادة الجامدة .

هذا على مستوى طبيعة الموضوع ، أما على مستوى المنهج فقد
صار من الممكن القيام بالملاحظة الدقيقة على العضوية دون الحاجة إلى فصل الأعضاء عن
بعضها ، أي ملاحظة العضوية وهي تقوم بوظيفتها ، و ذلك بفضل ابتكار وسائل الملاحظة كالمجهر
الالكتروني و الأشعة و المنظار ...

كما أصبح على مستوى التجريب القيام بالتجربة دون الحاجة إلى
إبطال وظيفة العضو أو فصله ، و حتى و إن تــمّ فصل العضو الحي فيمكن بقائه حيا مدة
من الزمن بعد وضعه في محاليل كيميائية خاصة .

2-جـ- النقد : ولكن لو كانت المادة الحية كالجامدة لأمكن دراستها
دراسة علمية على غرار المادة الجامدة ، غير أن ذلك تصادفه جملة من العوائق و الصعوبات
تكشف عن الطبيعة المعقدة للمادة الحية . كما انه إذا كانت الظواهر الجامدة تفسر تفسيرا
حتميا و آليا ، فإن للغائية اعتبار و أهمية في فهم وتفسير المادة الحية ، مع ما تحمله
الغائية من اعتبارات ميتافيزيقية قد لا تكون للمعرفة العلمية علاقة بها .

3- التركيب : و بذلك يمكن القول أن المادة الحية يمكن دراستها
دراسة العلمية ، لكن مع مراعاة طبيعتها وخصوصياتها التي تختلف عن طبيعة المادة الجامدة
، بحيث يمكن للبيولوجيا أن تستعير المنهج التجريبي من العلوم المادية الأخرى مع الاحتفاظ
بطبيعتها الخاصة ، يقول كلود بيرنار : « لابد لعلم البيولوجيا أن يأخذ من الفيزياء
و الكيمياء المنهج التجريبي ، مع الاحتفاظ بحوادثه الخاصة و قوانينه الخاصة ».

- حل المشكلة :وهكذا يتضح أن المشكل المطروح في ميدان البيولوجيا على مستوى
المنهج خاصة ، يعود أساسا إلى طبيعة الموضوع المدروس و هو الظاهرة الحية ، والى كون
البيولوجيا علم حديث العهد بالدراسات العلمية ، و يمكنه تجاوز تلك العقبات التي تعترضه
تدريجيا .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق